“بصمة الغريب وشهادة الجدران: جريمة الشّتاء الأسود”كانت عقارب السّاعة تدقّ بثقل، مشيرةً إلى التّاسعة مساءً، حينما اقتحم الهدوء زوايا غرفة نومٍ قارسة، في شقَّةٍ تتوسّط مبنى قديم، أحد أبنية حي “النّدى”. ليحل محلّ ذلك السّكون صوت طرقاتٍ خافتة على النّافذة. لم تكن مجرّد قطرات مطر، بل كانت بداية لحنٍ مشؤوم، سيُعزَف على أوتار الخوف، ويكشف عن جريمةٍ غلّفتها أسرار مدينةٍ لم تنم بعد.
رائحة القهوة الباردة، ورماد سيجارةٍ لم تكتمل، ومزهريَّةٌ زجاجيّة مكسورة، تناثرت شظاياها كنجومٍ ميّتة على الأرضيّة المبلّطة. هكذا كان ديكور الغرفة عندما وصل إليها أصحاب الشّقق المجاورة، بعد سماعهم صوت صراخ امرأةٍ قادمٌ من ذلك الطّابق. كلّ شيءٍ في الشّقّة كان يصرخ بالصّمت المطبق، صمتٌ أثقل من أيّ صخب، يُنذِر بأنّ الحياة قد غادرت المكان للتّو، تاركةً وراءها لغزاً يلفّه الشّفق.
في إحدى زوايا الغرفة المظلمة، وتحت خزانة ملابس خشبيّة، حيث لا يجرؤ الضّوء على الوصول، وُجدت جثّة صاحبة البيت. فقد ساهمت الخزانة في التّقصّي عن الحقيقة، عندما دحرت الدّماء من تحتها، وكأنّها وصلت لذروة مخاضها، معلنةً عن ولادة أدلّة جديدة. ومن آثار خربشة أظافر المرأة على درفة الخزانة، اتّضح لرجال الشّرطة أنّ الضّحيّة قاومت حتّى آخر نفس، وهذا ما يفسّر وجود الدّماء في رؤوس أصابعها، وبعض الأظافر المكسورة المتفرّقة على الأرض.
كان المحقّق يقف كشبحٍ أبكم، ينظر إلى الغرفة بعيناه الغائرتان، المتعبتان من ليالٍ طويلة بلا نوم. كانت تجولان في مسرح الجريمة، كما لو كانتا تبحثان عن خيط يقود لأيّ معطياتٍ حديثة، حتّى وإن كان خيط عنكبوت. تعتليه ملامح الصّدمة جرّاء التّشوّهات التي لحقت بالجثّة، ابتداءً من لسانٍ مقطوع إلى أصبعٍ مبتور، وانتهاءً برِجلٍ مهشّمة مسلوخة الجلد. لقد رأى الكثير، وحلّ الكثير، لكن هذه المرّة، كان الشّعور مختلفاً. كان هناك شيء ما في الجو، همسٌ خفيّ من المجهول، يخبره بأنّ هذه القضيّة لن تكون كغيرها، وأنّ المجرم الذي يطارده أعمق بكثير ممّا تخيّله.
فيما عُثِر على أحد الجدران، خلف ستارةٍ بالية، عبارة مكتوبة بالدّماء “الأفضل لم يأتِ بعد”، وكأنّ القاتل في رحلة صيد، يجوب المدينة بحثاً عن غنيمةٍ تليق بمستواه العقلي. هنا، لا تتحدّث الجدران فقط، بل تصرخ بأشياءٍ لم يرغب أحد في سماعها. إنّ الأمر ليس مجرّد بحث عن قاتل، بل هو رحلة في دهاليز النّفس البشريّة، حيث تتلاشى الحدود بين الحقيقة والخيال.
لم تكن المسألة مجرّد حادث، بل كانت عملاً مدبَّراً بدقّة، خطّة شيطانيّة تُركت لتكشف عن نفسها شيئاً فشيئاً، قطعة بعد قطعة، ليجد المحقّق نفسه في سباقٍ مع الزّمن، لكشف الحقيقة قبل أن تختفي عن كلّ الأنظار.
بائع التّبغ في إحدى المحلّات التّجاريّة، المقابلة للمبنى الذي وقعت فيه الجريمة، أدلى ببعض المعلومات بعد التّحقيق معه:
“كان الضّباب الكثيف يلفّ الشّوارع، يبتلع أضواءها ويصمّ الآذان. فجأةً، رأيتُ ظلالاً طويلة آتية من عمق الضّباب، ومع اقترابها من عامود الإضاءة، اتّضح أنّها تعود لرَجلٍ غريب ذو بنية ضخمة، لم أره قط من قبل في هذا الحي. اتّجه مباشرةً نحو المبنى القديم وهو يتلفّت حوله يميناً ويساراً، وقبل دخوله، رمى سيجارةً كان يدخّنها عند مدخل باب العمارة. وبعد ثلث ساعة، سمعتُ صراخ امرأةٍ آتٍ من الطّابق الثّالث. لم أكن أعلم أنّ تلك اللّيلة، التي بدأت كأيّ ليلةٍ عاديّة، سوف تحمل في طيّاتها مفاجأة، ستغيّر مجرى الحياة في هذا الحي الشّعبيّ إلى الأبد.”
تمّ معرفة هويّة القاتل من خلال بصماته التي تركها على السّيجارة، لكنّه لا يزال طليقاً حتّى الآن، دون أيّ أثرٍ يرشد رجال الشّرطة إليه. إلّا أنّ تصريح رئيس الشّرطة أربك جهاز البحث الجنائي، كالهدوء الحذر الذي يسبق العاصفة:
“تتبّعنا الخيوط، استجوبنا الشّهود، وجمعنا الأدلّة دليلاً دليلاً. وفي اللّحظة التي كنّا نظنّ فيها أنّنا أمسكنا بالجاني، ظهر دليلٌ جديد قلب الطّاولة رأساً على عقب. فبعد كلّ هذا البحث المضني، لم يكن ما كشفناه هو هويّة القاتل فحسب، بل حقيقة أنّ الضّحيّة نفسها كانت تخفي سرَّاً، لكنّنا لسنا متأكّدين من صحّته بعد، فنحن بانتظار تقرير الطّبيب الشّرعي. نرجوا أن نكون على خطأ، فإن ظهر هذا السّر للنّور، فإنّه سيغيّر مجرى القضيّة بأكملها.”
Views: 12