للشاعر مهتدي مصطفى غالب
لمْ يَمُتِ الخوفُ بلْ مُتُّ أنا
إنّي طفلٌ وأحبو على ركبتيّ
أحطِّمُ كلَّ أشيائي الجميلة وأبكي عليها.
للجُغرافية الكونيَّة مسَاحةُ ترحَلُ فيها كلماتُ الشَّاعر.. إنّها مسَاحة الخوفِ .. الخوفُ الذي يفقدُ المرءَ إحساسَه بالمسَافات, وخاصة إذا كان شاعراً ويحملُ روحَ طفلٍ, فالطُّفولة والشِّعر صِنوانِ في عالم الخيالِ والتَّخييل والأوهامِ البريئةِ, تذهبُ وتعودُ مُتردّدة تسرحُ وتمرحُ في النَّفس مَعَ الرُّوح الطِّفلية المُشرقةِ بالفرحِ والجَمالِ.
يصطادُ الشَّاعرُ مواقفَه الشُّعوريةَ والشِّعريّةَ منْ عالمِ الطُّفولةِ والبسَاطةِ والعفويةِ والبرَاءة, يقولُ الشَّاعر:
“كلٌّ أتى العالم ليترك بقاياه
وأنا على هذه الأرض
نسمةٌ مرّت بلا غبار
انزياح دلاليٌّ فهو نسمةٌ, يوظِّفُ الشَّاعر الطبيعةَ ليرسمَ بالتشبيهِ صورةً لبراءتِه منْ آثامِ البشرِ.
كما يحيا مع الخوفِ كصديقين لدودين لا يقدرُ أحدهما على فراقِ الآخرِ, وهكذا يندمجُ كلٌ منهما في الآخرِ ويرحلانِ معاً لاستكشافِ العوالمِ البعيدةِ عبرَ الغوصِ في كواكبِ النَّفسِ ونظامِها اللامرئيِّ.
في النَّص اغترابٌ وقلقٌ وضياعٌ, يرسمُهم الشَّاعرُ في لوحاتٍ نفسيةٍ تشردُ منهُ كشهيقِ الغريقِ وهوَ بينَ أيدي الموجِ تتقاذفُه رياحُ الحياة المُدلهمَّة في تيارٍ بحريٍّ لا يمنعُه شاطئٌ ولا صُخورٌ.
تتكرَّرُ اللَّوحاتُ السَّوداويةُ امامَنا فكلُّ شيءٍ مغلقٌ … الجسدُ والنَّفسُ والرُّوحُ. الإحساسُ والحسُّ والحَواسُّ … الحياةُ سرابٌ وخداعٌ .. كلُّ ما فيها عبثٌ في عبثٍ وخوفٍ وهلعٍ واكتئابٍ…
القصيدة سديمٌ من الشرِّ والسَّواد. لا شمس فيها ولا نور .. بل ظلالٌ تخفي وراءها لعبة القدر.
في هذه الظِّلالِ تبدو الأصْلُ الأمُّ هي المَلجأ والمَلاذ .. ولكنْ ما دافعُ ذلكَ أهوَ شعورٌ طبيعيٌّ أمْ مفتعلٌ؟ حينَ تقبلُ المساءاتُ تنقذُ روحَه المُتعبة.
في قراءة العنوانِ (مجرة الخوف) تلكَ الغرابةُ والدَّهشةُ التي تستفزّ الخَيالَ, تحضُرُ صُورةُ الثقبِ الأسودِ الذي يبتلعُ النُّجومَ والكواكبَ الشَّاردةَ في فضاءِ النَّفسِ, يبتلعُها الخوفُ وتفنى في اللانهايةِ. القصيدةُ رُؤيا ترتقي بالنَّفسِ, وتقتحمُ عوالمَ الفكرِ بالوَجعِ الرَّابضِ في منطقةِ اللاشعور, ينحدرُ فيها اللاوعيِ ويقتربُ من حدودِ الوَعيِ عنْ طريقِ المنولوجِ المُباشرِ, حيثُ نجدُ الشَّاعرَ يُسْهبُ في الشَّرحِ والتفاصِيلِ بطريقةِ تيارِ الوَعيِّ الذي كشفَ لنا عنِ المحتوى النَّفسيِّ للشَّاعرِ :
“لمْ يمتْ الخوفُ متُّ أنا
لمْ يمتْ الخوفُ
أقفرتُ أنا والقلب بما حواه
إنسان مملوء بالتعب
إنسان تنخرُ فيه الخيبة
من الجلد إلى الجلد إلى العظم
إنسان تأكله أحلام اليقظة والخوف”.
في التَّشكيل الشِّعريِّ قسّمَ الشَّاعرُ النَّصَّ إلى لوْحاتٍ غِنائية, وَجَعلَ لِكلِّ لوحةٍ نَشيداً يُردّدُ تلكَ اللازمَةَ (لم يمت… ) لكنّهُ عادَ ليخلطَ أوْراقَهُ, في شَيءٍ مِنَ الهَذيانِ الشِّعريّ. فالصِّراعُ بينَ المادّةِ والرُّوح .. بينَ الفكرةِ والشَّكل.. تلكَ جدليةُ القوةِ والفعلِ.. في مسيرةِ الحياة الإنسانيّة من وجهة نظرِ الشَّاعر .. ذلك الضَّعف البشريّ أمامَ المحنِ وأمامَ حقائقِ الكونِ والحياةِ.
يُهندسُ الشَّاعر القصيدةَ بِبناءٍ عَفويٍّ, صَمَّمَهُ وفقَ دفقاتهِ الشُّعوريَّة ؛ لتكونَ أعمدةُ القصيدةِ عالماً منَ الخوفِ والرُّعبِ والظِّلالِ, وكلّها تبدو للوهلةِ الأولى معانيَ سَلبيةً. في جُملٍ خَبرية بسيطةٍ تنحدرُ وتتصاعدُ وفقَ رؤيا ونظرة الشَّاعر إلى جَدلية الصِّراعِ وحدَّتِه وشدَّته:
“أحطّمُ كلَّ أشيائي الجميلة وأبكي عليها
……
لم يمتِ الرُّعبُ
متُّ أنا”.
في النَّص أثرٌ واضحٌ لعنصرِ القَصّ والسَّرديَّة .. فتعددُ الصُّور القائمةُ على الانزياحاتِ التَّركيبيَّة
” حجر أسند عليها أحلامي وأدفنها”
هذه العلاقة المعكوسَة بينَ الحجرِ وأحلامِ الشَّاعر. هي:
“ثمن الفرحِ الكاذب … ثمنُ الأفكار الجميلة ” .
وبعد سردٍ طويلٍ كادَ يحشرُ النَّص في زاويةِ الموتِ السَّريريِّ, أتى الشَّاعرُ ببعضِ الحركةِ والحياةِ لينقذَ الموقفَ الشِّعريَّ :
” يذهب إلى الحزن وأفكاري للفناء
هذا هو جسمي يمضي للموت
وروحي للضياع
فقفي على جثتي واضحكي
هي الحياة مهزلة” .
يستبطنُ الشَّاعرُ في النَّص لفظةَ الموتِ بما تحملُه هذهِ الكلمةُ منْ دلالاتٍ ورمزيةٍ, ويكرِّرُ استخدامَها بصيغةِ الفعلِ أو الاسمِ , فما الأبعادُ النَّفسيَّة لدى الشَّاعر؟ أهوَ المخزونُ المعنويُّ لهذهِ اللَّفظة في اللاوَعي والذي يبدو عندَه في كثيرٍ من المواقفِ الشِّعريّة أمْ تكاثفُ الخوفِ الذي يحيطُ بالزَّمَان والمَكانِ في تشكيلِ النَّصِّ؟ .
يُتقنُ الشَّاعرُ في النَّصِّ تلكَ اللُّعبةَ على المُتناقضات , في رَسم الصُّور .. صورِ الحَياة والموتِ, وهيَ لعبةٌ دراميةٌ عَبثَ بها الشَّاعرُ وقدّمَها بِخطوطٍ منَ التَّخييل والعَبثِ. فالشَّاعرُ يقدّمُ الحياةَ على أنّها مَهزلةٌ وكذبةٌ كبيرةٌ لا أساسَ لها في الواقعِ, كلُّ شيءٍ فيها مرهونٌ للخوفِ منْ بدايتها إلى نهايتها .. والمُعادلُ الموضوعيُّ لها هوَ الشَّقاء والحُزنُ والفَناءُ.
Views: 6









