حط جوليان رحاله في البيت الفخم الذي استأجره والده منذ أن وطأت قدماه هذه المدينة ، كان والده مرتخيا على كنبة من النوع الفاخر ممكسا بجهاز تحكم صغير ليتجول بين أقنية فضائية … ( مرحبا يا أبي … ) ثم ترك جسده الحيوي يخر على كنبة مقابلة ( مالك يا جول تبدو منهكا ) قال الأب .
استنشق الشاب نفسا عميقا تاركا لقدميه العنان في التمدد بارتخاء ( لقد أصبحنا على وشك البداية … ذاك الرجل رائع جدا استقبلني بحفاوة وأعطاني هذه الورقة ) ، تزحزح من مكانه بهدوء وصعوبة واتجه إلى أبيه دافعا له بالورقة الصفراء الصغيرة … تناولها الرجل بتؤدة ، وضع نظارة سميكة فوق عينيه وما لبث أن أطلق قهقهة عالية مما أثار استغراب الابن ، وربما غضبه أيضا … ( ماذا يضحكك يا أبي … هل قرأت نكتة كتلك التي تتبادلها مع صديقك الحمصي !!! ) … عاد أبو جوليان إلى وضعيته السابقة ( لا شيء لا شيء … أكمل ما بدأت به ثم أخبرني ) .
ترك الابن الشاب الصالة الكبيرة متجها نحو غرفته الخاصة لعله حن لمكالمة خطيبته التي مازالت تبعد عنه آلاف الكيلومترات منتظرة القدوم إليه في وقت قريب مع أمه وشقيقته لكن التعب أرخى بظله الثقيل فتبعثر فوق سريره كأوراق دفتر تلميذ كسول انتهى لتوه من الامتحان الأخير .
رن الهاتف كثيرا لكن جول كان يطلق شخيرا قويا ، فرأسه كان في مكان وجسده في جهة أخرى .
فتح الأب باب الغرفة بهدوء وحذر ، نظر إلى الشاب المرتمي هناك كجثة ملقاة على الرصيف ( أتمنى أن يخيب حدسي يا ولدي ) طبعا كان يحدث نفسه ثم عاد من حيث أتى .
لم تكن الرياح رحيمة بالنوافذ في تلك الليلة ، الستائر تعانق بعضها البعض بينما أغصان شجرة المشمش تضرب جذع أمها طالبة النجدة .
تلاشى الظلام على عجل مفسحا المجال أمام الشمس كي تظهر من خلف جبل يطل على المدينة ، غسل جوليان وجهه ، شق المشط الأسود شوارعا ضيقة في شعره ، كان الوالد الستيني نائما بعمق على أريكة سماوية اللون .
تناول الورقة الصفراء من فوق طاولة صغيرة ثم انطلق في رحلة جديدة تاركا الابتسامة تداعب شفتيه المحمرتين .
( إليك يا أستاذ هذه الرسالة ) ، رمقه الرجل بنظرة مواربة وكأنه يهزأ به ثم بدأ يقرأ بتأني دون أن يدعو الشاب للجلوس هذه المرة ، جوليان يحلم الآن بفنجان قهوة كما فعل معه الرجل في المكتب الأول الذي ارتاده يوم أمس ، لكن أمنيته ذرتها الريح المخترقة للنافذة القابعة خلف الرجل الأصلع ، إذن لابأس من أن يتحقق حلمه الآخر الذي حضر من أجله .
أشعل الأستاذ ( كما أسماه جول ) سيجارة جديدة ، رشف قهوته بسرعة ، تناول ورقة أخرى غير تلك التي بيده وكتب عليها شيئا ما ثم ناولها للشاب ، قرأ جوليان سطرا واحدا فقط هو كل ما احتوته الورقة ( لكن يا أستاذ … ) فقاطعه هذا الأخير بشكل فجائي ( افعل ما قرأت ثم عد إلي إن شئت إكمال مشروعك ) … خيم الصمت على المكتب للحظات قليلة كانت كافية للتفكير من قبل الشاب ( لكنه رقم كبير يا أستاذ … المشروع كله يعادل هذا الرقم ) … هبط الرجل الأصلع غائصا في كرسيه الكبير ، نفث سم دخان سيجارته ( ماذا … ماذا … عشرة آلاف دولار رقم كبير يالك من أبله ، ألا تعلم بأن غيرك يدفع أضعافه لمثل مشروعك !!! ) ، لم يشأ الشاب أن يفسد الأمر فهز برأسه موهما ( الأستاذ ) بالموافقة ثم غادر المكتب دون أن يترك كلمة واحدة .
اشتدت الرياح في ذلك الصباح على غير العادة حتى كادت أن تقتلع الشجيرات المتربعة على الأرصفة ، بعض الغبار يهوي على رأسه ليحط بين تلك الشوارع الضيقة التي شقها المشط الأسود ( لا بد أنه سيعاقبه عقابا شديدا ) قال جول بصوت مرتفع مما لفت انتباه فتاة كانت تعبر بالقرب منه فضحكت وتابعت مسيرها ( ها ها لقد أصبحت أضحوكة ) ضحك هو الآخر وحث خطاه إلى المكتب الأول .
استقبله ذات الشاب مهللا ( أهلا وسهلا بك يا جول ) استغرب كيف تذكر اسمه وهو لم يره سوى مرة واحدة ( بالتأكيد تريد أن ترى الأستاذ ) … ( نعم نعم أريد أن أراه لكن بسرعة أرجوك ) ، كقطعة خشبية تحرك الشاب من مكانه ، كبس زرا أحمرا أمامه ( تفضل ياجول تفضل لكن لا تنسانا ) …
انتفخت أوداجه فجأة وهو يتلقى الكلمات كصفعة في معركة لكنه آثر الصمت وولج إلى المكتب الكبير هلعا ، قبل أن ينبس الأستاذ بكلمة ترحيب كان جول يضع الورقة الجديدة في يده ( ما هو المطلوب أيها الشاب ) ، أتراه فهم سبب عودة جوليان أم أنه يتظاهر بالغباء …
( أستاذ لقد طلب مني عشرة آلاف دولار ، ألا يستحق العقاب ) … كشر الأستاذ عن أنيابه ، دفع إليه بالورقة بنزق ( يبدو بأنك لم تفهم أيها الشاب أو أنك لا تريد أن تفهم ) … أمسك جول بالورقة وهو يرمقه بنظرة ازدراء ، مزقها قطعا صغيرة جدا ثم رماها صوبه وانطلق نحو الباب مهرولا .
على نافذة البيت الفخم كان أبيه ينظر إليه بينما هو يحث الخطا نحو الباب .
( هيا يابني هيا الطائرة ستقلع بعد ساعة من الآن ) .
Views: 0
Discussion about this post