لا شكّ أنّ كلمة “طلاق” ذات وقعٍ ثقيل، تحمل في طيّاتها الكثير من الألم والتّغيير، فانهيار سقف العائلة، لا يؤثّر على الوالدين فقط، بل ينسحب تأثيره على الأطفال أيضاً، الذين يجدون أنفسهم في خضمّ هذا الانقلاب المفاجئ، ليجعل قلوبهم في حيرةٍ دائمة، تتساءل فيما بعد عن معنى “الحب”!
من المؤكّد أنّ الطّلاق ليس نهاية العالم، ولكنّه نهاية لنمط حياة مألوف. إن نظرنا في هذا الصّدد من منظور الطّفل، فهو ليس مجرّد انفصال بين الأب والأم، بل هو تغيير جذري في عالمه، عالم الأمان والاحتواء. فما هي تداعيّات هذا الأمر على صحّة الأطفال وحياتهم الاجتماعيّة؟
وفقاً لمقياس “هولمز وراهي للإجهاد”، فإنّ الطّلاق هو “ثاني أكثر أحداث الحياة إرهاقاً وألماً”، والتي يمكن أن يواجهها الشّخص بعد وفاة الشّريك، وهو المسبّب الرّئيسي لمعاناة الأطفال النّفسيّة والسّلوكيّة والاجتماعيّة، التي تتجسّد بحالاتٍ مختلفة.
فمن النّاحية النّفسيّة، تُصاحِب الطّفل مجموعة من الأعراض، كالقلق من المستقبل، والخوف من الانفصال العاطفي عن أحد الوالدين، أو كليهما معاً، وما ينجم عنها من اضطرابات الأكل، كالإفراط في تناول الطّعام، أو فقدان الشّهيّة.
إلى جانب بعض الأعراض الأخرى المتعلّقة بالاكتئاب، كمشاعر الحزن واليأس، وفقدان الاهتمام بالأشياء المحيطة، وقد يُظهِر الطّفل مشاعر غضب اتّجاه أحد الوالدين، الذي يعتقد أنّه السّبب وراء الانفصال.
ولا يفوتنا أن ننوّه إلى مشاكل النّوم، كالأرق، ورؤية الكوابيس، والتي يتأتّى عليها صعوبة في التّركيز، كفقدان التّركيز أثناء الدّراسة، ممّا يؤدّي إلى تراجع المستوى الدّراسي، وانخفاض المعدّل العلمي، أو قلّة التّركيز في الأنشطة التّرفيهيّة.
بالإضافة إلى تدنّي الثّقة بالنّفس وانعدامها بالآخرين، ممّا يؤثّر على قدرة الأطفال في اتّخاذ القرارات الصّحيحة.
ومن النّاحية السّلوكيّة، فقد يُلاحَظ عند معظم الأطفال تحوّلات جليّة في السّلوك، كأن يُظهِروا سلوكيّات عدوانيّة أو تخريبيّة، مثل العناد وتحدّي الوالدين.
وقد يلجأ الأطفال لسلوكيّات سلبيّة أخرى، كالتّدخين، وتعاطي المخدّرات، أو العنف، وذلك كوسيلة للتّعامل مع الضّغوطات اليوميّة، فمن الممكن أن يعمدوا إلى إيذاء أنفسهم، أو التّعدّي على غيرهم من الأطفال.
وفيما يتعلّق بالجانب الاجتماعي (التّواصلي)، فقد يلجأ غالبيّة الأطفال إلى الانسلاخ الاجتماعي، كأن يميلوا إلى الانسحاب من الأنشطة والتّجمّعات، والبقاء بمفردهم في المنزل، ويرجع ذلك إلى تفاقم مشاعر الخجل أو الخوف من المواقف الاجتماعيّة، ممّا يترتّب عليه الشّعور بالوحدة والعزلة.
ومن زاويةٍ أخرى، قد يعاني الأطفال من صعوبات في التّواصل والتّفاعل مع الآخرين، فضلاً عن عوائق التّعبير عن مشاعرهم واحتياجاتهم، سواءً مع الأهل أو الأصدقاء.
ومن المتوقّع أن يكرّر بعضهم أنماط العلاقات غير الصّحيّة، كتلك التي شهدوها في منازلهم، أو مواجهة صعوبات في تكوين علاقات مستقرّة مع أقرانهم في المستقبل.
ولا بدّ من الإشارة إلى التّأثّر بالبيئة المحيطة، كالتّعرض لآراء وانتقادات المجتمع، ممّا يزيد من صعوبة التّكيّف مع المتغيّرات الأسريّة، مثل الانتقال لمنزلٍ مغاير أو مدرسةٍ جديدة.
وفي دراسة أجريت حديثاً، أظهرت أنّ الأطفال الذين انفصل آباؤهم وهم في سن الخامسة أو أقل، يواجهون انخفاض في دخلهم المادّي كأفرادٍ بالغين.
في حين كشف خبراء اقتصاديّون: “أنّ الطّلاق، بدلاً من كونه صدمة قانونيّة معزولة، فهو يمثّل مجموعة من التّحدّيّات التي تواجه الوالدين، تشمل تقلّص أو فقدان الدّخل، وتغييرات في مستوى السّكن، وإعادة هيكلة الأسرة، وجميعها تؤثّر سلباً على مردود الأطفال”.
وحريٌّ بنا التّطرّق إلى أحوال الطّلاق في البلاد، حيث تشير السّجلّات الرّسميّة إلى ارتفاع ملحوظ بمعدّلات الطّلاق في السّنوات الأخيرة، والتي باتت متقاربة من معدّلات الزّواج.
وفي هذا الإطار، كشفت إحصائيّات المكتب المركزي للإحصاء عن زيادة حالات الطّلاق بنسبة 11% في عام 2022، مقارنةً بعام 2021، مع غياب الأرقام الرّسميّة لعامي 2023 و2024، ولكن يُرجّح استمرار ارتفاع النّسبة.
وطبقاً لقائمة الدّول العربيّة حسب معدّلات الطّلاق، فإنّ سوريا تحتل المرتبة السّابعة لعام 2024، حيث 40% من حالات الزّواج تنتهي بالطّلاق.
وجديرٌ بالذّكر أنّ التّحدّيّات والصّعوبات التي يواجهها الأطفال في سوريا، تشتدّ جسامتها وتأثيراتها عند حدوث الطّلاق، تبعاً للظروف المعيشيّة الصّعبة، لا سيّما مع تدهور الأوضاع الاقتصاديّة، أحد تبعات الحرب التي شهدتها المنطقة، الأمر الذي يفضي إلى معاناة الأطفال من الحرمان المادّي.
وفي ظلّ غياب المساندة الاجتماعيّة، فقد يواجه الأطفال، وأمّهاتهم المطلّقات، صعوبة في الحصول على الدّعم المجتمعي، نظراً لهيمنة العادات والتّقاليد التي تنبذ المرأة المطلّقة.
ولا مناص من القول أنّ القانون السّوري من القوانين المجحفة بحقّ النّساء، جرّاء تحيّزه للرّجل في مسائل النّفقة والحضانة، ممّا يزيد من معاناة الأم والأطفال.
لكن يبقى التّساؤل المطروح، كيف يمكن للآباء أن يكونوا المرشدين الأمناء في هذه الرّحلة الشّاقّة؟
إنّ إعادة تأهيل الأطفال نفسيَّاً واجتماعيَّاً في مرحلة ما بعد الطّلاق أمرٌ بالغ الأهميّة، حيث يتطلّب تضافر جهود الوالدين والأخصّائيين في الإرشاد النّفسي والاجتماعي، لعلاج أي اضطرابات سلوكيّة قد يعاني منها الطّفل، ومساعدته على التّكيّف مع الوضع الجديد، وتلبية احتياجاته العاطفيّة والاجتماعيّة.
وبناءً على ذلك، يجب على الوالدين التّعاون لتوفير بيئة منزليّة آمنة ومتوازنة، وترسيخ الشفافيّة في أساليب التّواصل والتّعامل مع الأطفال، والحرص على الإصغاء لمشاعرهم ومخاوفهم واحتواءها قدر المستطاع.
ولا بدّ من التّأكيد على عدم تحريض الطّفل ضد أي من الوالدين، والامتناع عن التّحدّث بصورة سلبيّة عن الطّرف الآخر أمامه، أو استخدامه كوسيط.
ومن الضّروري مساعدة الطّفل على فهم أبعاد هذا الانفصال، من خلال شرح أسباب الطّلاق وظروفه بلغة بسيطة ومناسبة لعمره، مع السّماح له بطرح الأسئلة والإجابة عليها بصدق.
كما يمكن الاستعانة ببرامج إعادة التّأهيل المتخصّصة، لتقديم الدّعم النّفسي والاجتماعي للأطفال والوالدين على حدٍّ سواء.
وعليه، يجب أن نذكّر الآباء أنّ التّأقلم مع الطّلاق يستغرق وقتاً وجهداً، فقد يمر أطفالكم بفتراتٍ متفاوتة من الاستقرار والاضطّراب، “كونوا صبورين وداعمين.”
وعلى المستوى الإجرائي، هناك العديد من التّدابير القانونيّة والاقتصاديّة التي ينبغي تنفيذها، لضمان حماية حقوق الأطفال بعد الطّلاق.
حيث يتعيّن تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة، ليشمل أحكاماً أكثر وضوحاً وصرامة، حول حضانة الأطفال والنّفقة والزّيارات، مع التّركيز على مصلحة الطّفل الفضلى.
وتماشياً مع ما تمّ ذكره، لا بدّ من تحديد نفقة الأطفال بشكلٍ عادل ومنصف، مع الأخذ بعين الاعتبار احتياجات الطّفل المتغيّرة، وقدرة الأب على الدّفع.
وعلاوةً على ذلك، يتحتّم توفير برامج دعم مالي للأسر المطلّقة التي تضرّرت من النّزاع، وخاصَّةً الأسر ذات الدّخل المحدود، كالقروض الميسّرة أو المساعدات الماليّة، لتسهيل حصولهم على السّكن والتّعليم والرّعاية الصّحيّة، وتلبية احتياجات الأطفال الأساسيّة.
كما يجب الأخذ بالحسبان توفير برامج تدريب مهني للأمّهات المطلّقات، لتمكينهنّ من الحصول على وظائف مستقرّة، وتأمين دخل ثابت لأطفالهن.
الطّلاق تجربة قاسية، وواحدٌ من أصعب القرارات وأكثرها ألماً. غير أنّه ضرورة في بعض الحالات، ودرساً قيِّماً في حالاتٍ أخرى. قد يكون فرصةً ثمينة لإعادة اكتشاف الذّات والنّمو الشّخصي، أو فرصة لتقييم العلاقات السّابقة، وتحديد ما هو مهمٌ حقَّاً في الحياة.
ولعلّه من المفيد أن نؤكّد، أنّ مصلحة الأطفال، وسلامتهم النّفسيّة والجسديّة، تأتي في مقدّمة الأولويّات. “فهم لوحة بيضاء… عليك أن تعرف كيف تلوّنها.”
Views: 23
