خفقانُ قلبٍ مختلف يرافقه إحساس بخروجٍ عن نمط أشهرٍ سابقة وتجديد في الطعام والمنام، مشاعر بهجة خفيّة تلازم جملة أخي :”أمي.. قال مذيع الأخبار إن غداً أول أيام رمضان”..
يبدأ حينها هاتف (القرص الدوّار) البرتقالي اللامع بحفلة رنين متواصلة لاتصالات الأقارب والأصدقاء، وتظل سمّاعته الثقيلة تتنقّل بين والدي ووالدتي كونهما الأكبر في العائلتين ولهما الأولوية في مباركة الشهر الفضيل، استرقُ سكوت الهاتف لدقائق بلهفة، استعداداً لسؤال والدتي المعتاد في هذا الوقت من كل عام، سؤال يأخذ خيالنا لجولة دسمة قرب الينابيع البيضاء.. فقد جرت العادة أن تُقدَّم أطباق اللبن المطبوخ في غرة رمضان تِبعاً للمقولة الشاميّة الأصيلة “لازم نبيّض السفرة بأول يوم” تيمّناً بجعل أيامنا بيضاء، فيأتي السؤال (شاكرية أم شيخ المحشي أم شيشبرك أم لبنيّة؟) ليقاطعها والدي /رحمه الله/ قائلاً: “اختاروا طعام الإفطار أنتم، أما الحلويات سأجلبها على ذوقي” ليترك مكاناً للمفاجأة والتوقعات في أذهاننا!
ما كان يثير دهشتي حقاً هو أنه خِلافاً لأي رحلة أخرى، تنطلق رحلة رمضان قبل اليوم الأول له، فتكون محطة البداية مزيّنة بلحن حنون وكلمات طيبة وصوت له أثر وجداني عميق “يا نايم وحّد الدايم، قوموا على سحوركن إجا رمضان يزوركن” يرافق ذلك السجع اللطيف طرقاتٍ بنغمٍ محدد مألوف يظل الدماغ يكرره حتى لو ابتعد صوت “المسحّر” وتلاشى فهو بطل هذه المحطة المهمة المليئة بالبركة التي ترسم ملامح غريبةً وأحياناً مضحكة على الوجوه، خاصة الأطفال واليافعين الذين يجدون مشقة في الاستيقاظ.
كنتُ أشعر في تلك الأيام /قبل أكثر من ربع قرن/ أن طاولة السحور تلك هي ابنة مائدة الإفطار أو ربما حفيدتها فهي متواضعة يتوسطها طبق يقف معتداً بنفسه كشخصية مشهورة “بيض مقلي أو حمّص أو فتّة…” وحوله يتحلّق جمهور قليل على استحياء “الجبن واللبن والزيتون” ما يلبث أن يفلت واحداً تلو الآخر هاربين الى بطون العائلة، هكذا حتى يحتل ابريق الماء الزجاجي الشفاف /الموجود في كل منزل/ المكان المميز من الطاولة فيدور من يد لأخرى ومن كأس لآخر حتى نسمع نقرات إصبع المؤذن على “الميكروفون” لتجريبه قبل بدء أذان الإمساك.
للمذياع آنذاك أهمية عُظمى ربما أكثر من التلفاز، قبل وخلال وبعد السحور حتى الفجر كنتُ أسمع الصدى ذاته عشرات المرات من بيوتات البناء الذي أسكنه والأبنية المجاورة، ابتهالات وأناشيد وأحياناً أحجيات وطرائف أو مسلسلات اجتماعية لطيفة، جميعها تدور في فلك الشهر الكريم وحوله، كانت الشهيرة منها أنشودة بموسيقى قريبة من القلب تتلو أسماء الله الحسنى تتكرر كل يوم عند الفجر، مازالت ترن على مسامعي وتنعش ذاكرتي عائدة بي سنوات وسنوات إلى مشهد السحور في منزل أهلي ورائحة الخبز على المدفأة القديمة..
في صباح أول يوم رمضان سنة 1992 وأنا في الخامسة من عمري وصلني الخبر السارّ من والدتي “حفظها الله”
“ستصومين معنا هذه السنة حتى أذان الظُهر وكل عشرة أيام لكِ مكافأة”
إنها (درجات المادنة) أي تعويد الأطفال وتحفيزهم على الصيام شيئاً فشيئاً، احتفل الجميع في باكورة صيامي بسفرة خاصة تعلوها أطعمة محببة وطبق الأرز بالحليب المفضل لدي، وقيل لي هذا الطعام يخصّ الصائمين الأبطال الصغار ولن يأكل مثله أحد في المنزل، شعرت حينها بالتميز والفخر كأنني أميرة في أحد مسلسلات الأطفال..
بعد الانتهاء من تلك الوليمة الصغيرة أمسكَ والدي بيدي مُعلناً موعد الانطلاق، عادةً مغادرة المنزل أيام رمضان إما للتسوق قبل الإفطار أو لصلاة التراويح بعده، لكن وجهتي حينها كانت مختلفة فهناك نزهة ممتعة جزاء الصيام الأول بين أحضان أغصان الياسمين المتسلقة على الجدران العتيقة والأرصفة الحجرية والحارات الضيقة، هدف رحلتنا القصيرة تلك كان التجوّل في أحياء دمشق القديمة وزيارة المسجد الأموي ثم التبضّع من الأسواق الشعبية المحيطة بهذا المسجد الضخم التي تخطف الزائر بألوانها الكثيرة حيث يتفنن كل بائع بتنسيقٍ بديعٍ لبضاعته يلازمه مناداة خاصة تملأ المكان لحناً وكلمةً وفي كثير من الأحيان يشاركه ذلك الهتاف ندّ له يُكمل في القافية والرتم ذاته وغالباً ما يكون سجعاً كوميدياً طريفاً يجعل وجوه المارّة باشّة مبتسمة.
كنتُ أطرب لأناشيد مميزة صادرة من محل العصائر وابتهالات تنعش الروح تخرج من مكبر صوت قديم يضعه محل الفول آخر محطات رحلتنا وخاتم مشترياتنا فهو سيد المقبلات في الشهر الكريم ويبقى صنفاً ثابتاً على مائدتنا بشكل شبه يومي، نعود للمنزل بإنتظار ضرب المدفع وسماع الأذان فنستقبل الفول كضيف أول على أجوافنا فيما يتبعه طبق الحساء أو السلطة برفقة نوع من أنواع المشروبات الشاميّة اللذيذة /قمر الدين، تمر هندي،عرق سوس، جلّاب/ تمهيداً لنوعين وأكثر من الأطباق الدسمة “كبّة، أوزي، بامية، ملوخية…” كثيراً ما شعرتُ في ذلك الوقت أننا في مباراة ملاكمة مجنونة نبدأ بوزن الريشة وننتهي بوزن ما فوق الثقيل حتى يرمي أحدنا المنشفة في باحة الصراع معلناً نهاية اللقاء الحاسم!!
وكما يُثْري رمضان روحنا يُثْري حواسنا أيضاً من طعوم ومذاقات مختلفة وروائح الطبخات الشهية القادمة من كل نافذة في حارتنا التي كانت تُحْبِط محاولات جاراتنا في إثارة دهشتنا عند إرسال أطفالهنّ مع “صحن السكبة” فقد أفشت الرائحة اللذيذة كل الأسرار وأخبت لهيب المفاجأة.
“بانوراما رمضان زمان” غنيّة بتفاصيلها المشوّقة؛ ففي رمضان زمان….
حين كانت الحياة أبسط، وكان للتفاصيل الصغيرة بهجة ومعنى، لقطعة “البسكوت” المخبأة طيلة نهار الصيام نكهة وألقاً، لحكاية تذوق “العرقسوس” لأول مرة سحراً، أي… حين كان للحياة طعماً مختلفاً!
أعاد الله البهجة الأولى التي فقدتها قلوبنا وغابت عن قلوب الأجيال الجديدة
ألمى حلواني
Views: 0