من دواعي سعادتي أن أوجدَ في امتدادٍ زمني واحدٍ مع شعراءَ أجادوا تهذيب الكلمة و امتلكوا أعنةَ اللّغة و موسيقاها ومنهم الشّاعر الدكتور جليل البيضاني، وكيف لي أن أزّنَ الريشَ النابت في أجنحته الشّعريّة أو أدوزنَ الأنسجةَ الطريّة البليغة شعراً و لغةً.
فأنا أدركُ أن نقد الشّعر يوجبُ التخندق عند بنية القصيدة و فحص كلّ لبنةٍ و خليةٍ في بينانها، وهذا لا يتأتى لكلّ مستطرقٍ و طارئٍ على النقد أو عديم الخبرة للخوض في العملية الشّعرية و استنباط جمالياتها ، وقد عمدتُ إلى الاستقراء و المنهج النقديّ التحليلي علّي ألمَّ ببعضٍ من تجربته الشعرية
ففي مجموعته ( جمرٌ على شفة الحرف ) يتقدُّ الجمرُ ليذكي نيران الكلم الّذي غدا قضية وطنٍ مازال يعاني الألم ونهب خيراته من قبل قوى الإمبريالية العالميّة والفساد ؛فالوطنُ هو قضيته الكبرى إذ كتب :
ستون عاماً وهذا الحرف يتبعني
أنى مشيتُ و أنى كان مرتزقي
يغفو على وجعٍ في كلّ نائبةٍ
ويستفيقُ على بلواي في رهقِ
وهنا تستوقفنا العلاقة الديناميّة بين الموروث والحديث بين أسلوب صياغة القديم و أسلوبه التعبيري الحديث إذ اعتمد تفعيلات البحر البسيط :
لدى البسيط يبسط الأمل
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن
لأنه الأوفى لدفقته الشّعورية المتصاعدة الإيقاع و على الرغم من الشكل العمودي ذي الشطرين نجده ينقل بشكلٍ فنيّ ما يراوده من أفكارٍ و صورٍ بلغةٍ تتلائمُ مع زمانه و مكانه دون التقيد بأهليّة هذا المفردات أو عدم أهليتها، فتحول من الإبداع في لحظةِ حزنٍ إلى البناء المحسوب بمقاييس لغويّة متزامنة و الزمكان
واعتمدَ التحديث في الصور الشعرية إذ قال :
حاولتُ جرَّ حبالِ الحرف في دعةٍ
لكنّه كان مجدولاً على عنقي
فضلاً عن قسوة مشهد الشعر الذي يشنق ناسجه و صائغه نجد الصورة مدهشة الوقع والإحساس ولا يكتفي بتوصيف أثر الوحي الشّعري عندما يستبد به بل يصف تقلّبه بقوله:
الشّعرُ خمرٌ إذا ما كنتَ تنهلهُ
وفي الأحايين سمُّ القلبِ والرمقِ
فالضدّ يبدي حسنُه الضدّ و الشعر ثنائية ضديّة يقدم نشوة الشعور وسمّ يسقم القلب والنفس في آنٍ معاً.
فاللّغة الشعريّة عند د. البيضاني جسمٌ حيٌّ ومتطورٌ باستمرارٍ وقد طوّر لغته وفقاً لعصره مفرداتٍ ولغةً و معانٍ ومناخاً ثقافياً و فكرياً
وهذا ما ندعوه اليوم بلغة الصحافة
التي ترصدُ الواقع و تفند أحداثه.
و لأن وطنه العراق هو شغله الشاغل وهمّه الأشد إيلاماً كتب سلاماً ربى بغداد في مقارنة بين مجد و حضارة العراق في الماضي و ما حلّ به في الحاضر في قوله :
سقى الله أياماً أريجٌ شمامها
على شاطئ النهرين و الورقُ هادلُ
ولما نزلْ إذ جاءَ غدرٌ مبيتٌ
وحلّت بنا من كلّ صوبٍ صوائلُ
فقد وظفَ تقنية تراسل الحواس بين مشموم الأريج ومسموع الهديل ومتذوق السقيا
ونفاجأ بالخطر المحدق وقد أحاطَ الغدر بدارِ السلام ، وقد تماهى الشاعر ودفقته الشعورية فقد استخدم تفعيلات البحر الطويل
طويلٌ له دون البحور فضائلُ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
و روي اللام المشبعة بالضم لأن القافية المطلقة المتحركة تفي التجربة الشعورية حقّها ، ويطوّر المبدع النوتة الموسيقية للخليل واضعاً نوتته الخاصّة للإطار الحياتي الذي يعيش لذا كتب رباعيات يقول فيها:
يا ليالي الوصل من بعدِ الجفا
لا تقولي لذوي الوصل كفى
فلقد مرَّ الزمان وعفا
من لياليه الطوال
فقد تفاوت عدد التفعيلات في السطر الشعري حتى قارب نظام الموشح و يؤكد هذا المقطع الثاني في قوله:
كلما هاجَ به الشوق حكى
وتناءى عنه صبرٌ فشكا
وعلى صدر لياليه بكى
حين لم يرجُ الوصال
و أعطى بذلك الصلصال القديم ملامح جديدة فأخذ الوحدة الأساسية في بناء القصيدة العربية التفعيلة و ولدَ منها اشكالاً جديدة و ربط بين الموسيقى و الحالة النفسية و الشعورية.
و لم يتناول د. البيضاني نوعاً شعرياً واحداً فكتب القصيدة ذات الشطرين و قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر لنقرأ في قصيدة أستذكر روحي :
نعشٌ
مطروحٌ في الرمضاء
أهمله الحمالون
بيداءٌ
و رياحٌ غضبى
موجٌ /يسكنه النوّ
ليلٌ /تاه القمرُ فيه
أفنانٌ /في يوم خريفٍ عاصف
ومناقيرُ عنادلَ
أتعبها شوكٌ في فمها
مجمرةٌ /في قيظٍ
وحدأةٌ /أتعبها النوق
صوفيٌ / يغفو في خمارة
جلبابٌ / من ورقٍ /في قرِّ شتاء
زوّادةُ راحل / يملؤها غسلينٌ وضريع
طيرٌ /أسقطتِ الريح جناحيه
أعمى / لا يملك منسأةً
أنشودةُ عشقٍ تعزفها أفواهٌ مسدودة
ومسيرٌ في دربٍ موحل
شعرٌ /لا يعرفه إلا قرطاسٌ منسي
زبدٌ / قد ذهب جُفاءً
ذاك أنا أستذكر روحي
و في استذكاره نقرأ تاريخاً من الخيبات و قصص الحبّ و أحداث تعصف بالوطن و في النهاية الأشعار وحدها من تؤرخ كينونته و ماهية حياته ، في وحدة عضوية دينامية وظف فيها تراسل الحواس و الرمز الديني و الأسطوري و الصوفي والتراث بأسلوبٍ رشيقٍ
ومكثفٍ .
وتميّز بالموضوعيّة و الواقعية وعبر عن الوجدان الجماعي منطلقاً من الخاصّ إلى العام
ونأخذ على الشاعر ظاهرة تكرار الصور و المفردات كوصف النخيل ولذا اسميته ((شاعر النخيل)) ، وكذلك الوِرق والليل و القمر والسّراق والعشاق وغيرها كثير .
غيرَ أنَّ أسلوبه المتجدد لم يفسد الذائقة وعمل ضمن خريطة الإبداع المستمدة من ذاته الشّاعرة .
أتمنى أني وفقت في تسليط هالةٍ من ضوءٍ على جزءٍ يسيرٍ من تجربة الشاعر الدكتور جليل البيضاني في ديوانه ( جمرٌ على شفة الحرف ) .
Views: 1